عنى العرب بلغتهم ؛ لأنها كانت الوسيلة التى كانوا يستخدمونها فى التحدث بمآثرهم ، والتغنى بأمجادهم ، وكانت سلاحهم فى المناظرات والمنافرات .
وكان العربى يتعصب للغة قومه ، ويباهى بصفاء لهجته ، وكان يحرص على تنقية لغته, ويولى أبناءه عناية خاصة ؛ فينشئهم فى البوادى (مناطق الفصاحة) ويبعدهم عن الحواضر التى تختلط فيها اللغات ، ويبتغي بذلك طبعهم بطابع الفصحى الخالصة من شوائب الحضارة . وكان من مزيد عناية القوم أن ميزان التفاضل بين الأئمة, وحملة اللغة كان ساعة معرفة الرجل بكلام العرب ولغتها وغريبها ، وكان الأمراء والملوك والخلفاء وأعيان الأمة يتسابقون في تأديب أبنائهم ، أي : تعليمهم الأدب العربي من اللغة والنحو والشعر وأخبار العرب ومفاخراتهم ومنافراتهم ؛ ليحفظوا كلامهم ، ويقووا به ملكاتهم اللغوية وكان أكبر عيب في الشريف العربي أن يلحن في كلامه ، فلا يأتي بالحركات الإعرابية أو الحركات اللغوية ..كل ذلك كان في سبيل حفظ اللغة ورونقها وجدتها ، وتقوية ملكة الفصاحة في النفوس .
وقد انحصر جهد علماء العربية في التعمق في دراسة اللغة العربية لمعرفة أسرارها وقوانينها بهدف فهم النصوص الدينية والمحافظة على أصالة العربية من تأثير الجماعات اللغوية الأخرى التي اعتنق أفرادها الإسلام ، ونلمح حرص العلماء على اللغة العربية وإقدارهم لها ، ومما يذكر أن أبا الأسود الدؤلي أقدم أئمة اللغة ، قالت له ابنته: متعجبة ، وقد نظرت إلى السماء ونجومها ، في ليلة صافية : ما أحسنُ السماء ، ورفعت ( أحسن ) وحقها في التعجب ( النصب ) ، وفي الاستفهام ( الرفع ) ، ففهم أبوها الاستفهام على ظاهر ما تكلمت به في الجواب، فأجابها : نجومها ، أي : أحسنها نجومها ؛ فأدركت خطأها ، وقالت : أنا متعجبة ، ولست مستفهمة ، وكان هذا دافعا لوضع أبو الأسود علم النحو ، بعدما أشار عليه الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بذلك .
وقد بلغ تعلقهم باللغة : أنهم قدموها على ما عداها من أمور عظام، ومن ذلك أن أبا عمرو بن العلاء كان مولعًا باللغة،فخرج مع أبيه هاربين من بطش الحجاج الثقفي ، وبينما هما بصحراء اليمن إذ لحقهما لا حق ينشد :
بما تكره النفوس من الأمر له فرجة من كحل العقال
فقال أبوه : ما الخبر ؟ قال المنشد ( مات الحجاج) ، فقال أبو عمرو فأنا بقوله فرجة ، أشد سرورا مني بموت الحجاج ، ولعلنا لا يخفى علينا الحس اللغوي عند أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - عندما لحظ الواو الفارقة ، عندما دار حوار بينه وبين رجل بشأن ثوب فقال الصديق : أتبيع هذا الثوب ، فقال الرجل : لا يرحمك الله : فقال يا هذا قل : لا و يرحمك الله . وهذا إحساس قوي بأهمية الحرف الواحد فى اختلاف المعنى ونقله من دلالة المدح إلى الذم أو نقله من مجرد الدعاء له إلى الدعاء عليه ، وهذا بالطبع يحتاج إلى إقدار للغة وتراكيبها ودلالاتها ، وليس ببعيد الرواية التي نقلت عن الإمام الشافعي رحمه الله - في أمر قريب مما تقدم - عندما دخلت عليه امرأة في مرضه فدعت له بالشفاء بقوله : ( أدعو الله أن يشفيك ) فتبسم الشافعي وقال : اللهم بقلبها وليس بلسانها ، والمعنى : أنه كان ينبغي أن تقول أن يشفيك الشفاء الحقيقي المأخوذ من قوله تعالى من سورة الشعراء ( وإذا مرضت فهو يشفين ) الشعراء: 80 أما ما فطن إليه الشافعي – رضي الله عنه - وهو الشاعر والأديب أن ( يشفيك ) بمعنى : الهلاك . ومن هنا جاء تعقيبه الاستدراكي - الطريف الذكي - على كلام هذه المرأة التي أفلت المعنى منها وانقلب على مقابله ( ضده ) لمجرد اختلاف مجرد الحركة من الضبطية على الحرف في أول الكلم ، وما دمنا قد أشرنا إلى قول الشافعي - رحمه الله تعالى - فإنه يقفز إلى ذهننا هذه الأطرفة العجيبة التي دارت بين الحجاج بن يوسف الثقفي ، وبين غلام أغلظ القول على الحجاج وأنهى مناظرته إياه بقوله للحجاج ( ييض الله وجهك ، وأعلى كعبك ) فسأل الحجاج جلساءه : ماذا أراد الفتى هذا ؟ فقالوا بيضه لك يا أمير ، فقالوا يدعو لك يا أمير ، قال : لا ، إنه يدعو علي ، فقوله بيض الله وجهك ( أراد لي البرص ) وقوله أعلى كعبك أراد بي أن أصلب ؛ فيعلي كعبي . فقال له الحجاج : ألست تقصد هذا يا فتى ، قال له :بلى ما أشد ذكاءك !! قاتلك الله.
والله نسأل التوفيق والسداد
د/ أحمد عبده عوض
رئيس قناة الفتح الفضائية
جريدة عقيدتى - عدد940
بتاريخ الثلاثاء 24من ذى الحجة لعام1431ه